الشيخ : عبد الحميد بن باديس |
و في هذا الصدد نستشهد بما كتبه الشيخ "محمد خير الدين" في مذكراته :
"... انتشرت وفود جمعية العلماء المسلمين في كل مكان، و في الوفود التي شاركت فيها، وفد الصحراء الذي تكون من الشيخ "عبد الحميد بن باديس" و الشيخ "مبارك الميلي" زار هذا الوفد وادي سوف و كانت معقلا من معاقل الطرقية التي تناهض حركتنا الإصلاحية، و لكن الحركة الإصلاحية، سرت في كل مكان و أصبح لها أتباع ينتصرون بها و تنتصر بهم، و من جملة الشخصيات التي انضمت إلى حركتنا و أصبحت عضوا عاملا في إدارة الجمعية : "عبد العزيز" ابن الشيخ "الهاشمي" رئيس الطريقة القادرية...."
وفعلا، كان لهذه الزيارة الوقع الكبير في المنطقة حيث سجل لنا الأستاذ حمزه بوكوشة (رحمه الله) العضو الإداري لجمعية العلماء و أصيل الوادي تفاصيل هذه الزيارة في جريدة البصائر منها : "... و ما كادت الصحافة المحلية تنشر نبأ إيفاد هذا الوفد حتى هب دعاة الفتنة و الشقاق و حاولوا تصوير الجمعية و أتباعها لرئيس الملحقة السيد القبطان بصورة شوهاء و قاموا بأدوار في الجوسسة الدينية المدعمة بالاختلاق و الافتراء التي يعجز عنها شياطين الإنس و الجن ..."
. وهكذا بدأ أصحاب الطرقية في تحريك أعوانهم ليهاجموا الحركة الإصلاحية، فجعل هؤلاء يصفون الرئيس الشيخ ابن باديس بأنه وهابي، و عبداوي، و با أنه "عزرائيل"، رغبة في تنفير الناس منه، وسعيا إلى وأد الحركة في مهدها، و لكن استقبال الوفد كان فوق كل تصور أينما حل .
ففي قمار استقبل الوفد من طرف الشيخ "الأخضر شبرو" رئيس خلية جمعية العلماء بالوادي - و هو زيتوني، اشتغل باش عدل بمحكمة قمار - و كان معه السيد "عبد الكامل النجعي" أمين مال شعبة الوادي و السيد "قدور" نائبه، و حين نزول الوفد من السيارة قدم له الشاب الناهض السيد " الطيب بن السيد الحاج عبد القادر بن فرحات" أحد أعضاء شعبة (تكسبت) و أحد المزاولين التعليم بجامع الزيتونة المعمور ... باقة من الأزهار قدمها بأبيات منها قوله :
يــا باقة أدي الســـلام اللائقا ******* و إلى الرئيس صلي احتراما فائقا
و في خارج بلدة (قمار) تجمع الناس في تظاهرة عظيمة للاحتفاء بالوفد . . و تقديم القهوة لهم ، و حينما أخذ الوفد مكانه قام الشيخ محمد الطاهر بن بلقاسم، أحد المتخرجين من جامع الزيتونة، و ألقى خطاب الترحيب و قصيدة طالعها :
هبي يا قرية الرمال و هبـــــي ******* واجبات اللقاء إلى خير وفد
مرحبا بالذين هبــــــوا لحـــق ******* أهله ضيعوه عن غير عـمد
نفخوا في البلاد روحا فأمست ******* أمة تعرف الحقوق و تـفدى
ثم سار الوفد إلى الوادي و توجه إلى مكتب الحاكم العام العسكري في زيارة مجاملة و الذي ثارت مخاوفه من هذه الزيارة ، لكن الشيخ ابن باديس طمأنه و قال له : " أنا كفيل بأن لا يحدث إلا ما تحمد عقباه و ستفرحون بالأثر الحسن الذي يتركه أثر رحلتنا في قلوب السكان . فقال له الحاكم العام العسكري : " إن الوادي لا تتوفر على قاعات مناسبة للخطابة " . فرد عليه الشيخ "عبد العزيز" بأن الخطب تكون في زاويتي ، و هي أوسع محل في البلد ، ثم خرج الوفد من مكتب حاكم الملحقة ليتناول وجبة الغداء على مائدة الشيخ "عبد العزيز" .
و من الغد صباح الخميس توجه الوفد إلى (عميش) ، فدخل إلى سوق (البياضة) و توجه بعد ذلك إلى المسجد الذي بناه الشيخ "الهاشمي" والد الشيخ "عبد العزيز الشريف" فاجتمع عليهم جمع غفير من الناس فألقى عليهم الشيخ ابن باديس خطابا توجيهيا، ثم عاد الوفد إلى الوادي لتناول الغذاء على مائدة الشيخ "عبد العزيز" ، و بعد الظهر توجه الجميع إلى (الزقم) ، و توقف الركب في طريقه بقرية (البهيمة) "حساني عبد الكريم حاليا" و استقبلهم السكان بكل حفاوة ، حيث أقيمت لهم عدة احتفالات. و لم يغادر الوفد إلا و الشمس عند المغيب .
الشيخ : بن باديس مع بعض أعضاء جمعية العلماء المسلمين |
وصل الجميع إلى (الزقم) مع الغروب ، فأقيمت لهم الولائم و انتشرت البهجة و الأفراح بمقدم الوفد ، و في السهرة أسست خلية جمعية العلماء بالزقم من خمسة عشر عضوا برئاسة السيد "معمري عبد الرحمان بن علي" خريج جامع الزيتونة . و قضى الوفد الليلة بالزقم ، و في صباح الجمعة رجع إلى الوادي ليحاضر الأمة في زاوية الشيخ "عبد العزيز" ، لكن المناسبة كانت يوم السوق الأسبوعي ، و تقتضي الفرصة أن يقام الاحتفال في ساحة السوق ، فذهب الشيخ "عبد العزيز" إلى الحاكم العسكري ليفاوضه في الأمر، فأذن له، وعقد الاجتماع بساحة السوق و حضره خلق كثير ، و رغم دسائس الخونة و بعض الطرقيين للتشويش على هذا المهرجان و إفشاله ، و قد روجوا أن رئيس الوفد هو (ابن إبليس) بأفكاره الوهابية الشيطانية و ذلك لتشويه سمعة الإمام ابن باديس، حتى يقاطع الناس هذا الحفل تفاديا لأفكاره الخطيرة ، و لكن كانت المفاجأة كبيرة حيث حظي الشيخ الجلل و الوفد المرافق له باستقبال رائع و بحضور جمع غفير ، و بإعجاب الجميع بخطبة الإمام ابن باديس التي كان لها وقع في نفوس شباب المنطقة خاصة ، و أصبح ذلك اليوم المشهود خالدًا و منحوتا في ذاكرة الكثير منهم - ويتذكرونه إلى اليوم - و يروي بعضهم أن بعض الأطفال قد سخروا برمي الحجارة على الوفد ، لكنهم انبهروا بكلام الشيخ ابن باديس ، فتركوا حجارتهم و انضموا إلى الحفل بكل غبطة و سرور للاستماع و الاستمتاع بأحاديث الإخوة الإسلامية و الأخوة الإنسانية و الروابط التي تربط المجتمع ، ثم قدم الشيخ "عبد العزيز" باقي أعضاء الوفد الذين ألقوا كلماتهم على التوالي و هم الشيخ "العربي التبسي" و الشيخ "مبارك الميلي" و "حمزة بوكوشة" و "محمد خير الدين" ، و بعدها طلب من الحاضرين الانصراف، حيث وقت صلاة الجمعة ، و بعد الصلاة تناول الوفد طعام الغداء على مائدة الشاب" البشير شحيمة".
و بعد ذلك ذهب الوفد إلى مكتب الحاكم العسكري لتوديعه ، و إعلامه أن الزيارة قد انتهت بدون أي حادث ، و الجدير بالذكر هنا هو أن أسلوب جمعية العلماء في عملها كان دائما أسلوبا هادئا و سلميا حتى يطمئن له الحكام الفرنسيون ، حيث تقوم الجمعية بتهيئة الأرضية الصالحة للزراعة أولا ثم تغرس فيها بذور الثورة ، و تسقيها رويدا رويدا حتى تنبت و تترعرع و يقطف ثمارها الناضج فيما بعد.
غادر الوفد الوادي و اتجه إلى (تكسبت) حيث استقبلهم الشاب "الطيب فرحات" ثم توقف في (كوينين) عند السيد "حمويا عبد الوهاب بن ناقا" الذي تبرع للجمعية بمبلغ خمسة و عشرين ألف فرنك فرنسي قديم ، بعد ذلك انتقل الوفد إلى (تغزوت) عند زاوية الشيخ "العيد التجاني" .
و من الغد وصل الوفد إلى (قمار) حيث ألقى الشيخ ابن باديس درسا قيما و تبعه الشيخ "خير الدين" و "العربي التبسي" و "مبارك الميلي" ثم جاء دور الشيخ "عبد العزيز" فقام و قال : "إن الطرق بدعة لا أصل لها في الدين فحسبكم التمسك بالكتاب و السنة" و قال أيضا : "أنظروا أيها الإخوان إلى الفرق بين العلماء و شيوخ الطرق يأتونكم متفرقين في سباق لأخذ الزيارات . . الطرق شتّتتكم و أضرت بكم في دينكم و دنياكم و العلماء يريدون إرجاعكم إلى الكتاب و السنة و تعليمكم العلم الصحيح". (البصائر عدد 95).
ومن (قمار) انتقل الوفد إلى (الرقيبة) لزيارة مسجد البلدة لمصالحة الفرقاء ، حيث يذكر الشيخ محمد خير الدين : "... فقد زرنا (الرقيبة) و هي بلدة صغيرة تتنازعها طريقتان هما : القادرية و التجانية ، و قد بلغ الشقاق بينهما شأنا بعيدا فحرموا التعامل و التزاوج بينهما ، وقسموا المسجد الجامع شطرين . أقاموا في وسطه جدارا فاصلا فجعلوا من المسجد مسجدين، مسجد لهذه ومسجد لتلك وقد دعانا الشيخ عبد العزيز الى زيارة هذه الناحية واستقبلنا استقبالا حافلا فالقينا الدروس وعقدنا الاجتماعات ونظمنا الشعب ومضينا..." .
وقد كان لزيارة الشيخ بن باديس و وفد جمعية العلماء المسلمين لوادي سُوف نتائج طيبة تجلت فيما بعد نذكر منها :
* بث الوعي الوطني في المجتمع السوفي،والاتصال بالجماهير مباشرة بدون واسطة.
* كسر حاجز الخوف المضروب على المنطقة جراء الحكم العسكري بها.
* إبراز هيبة العلماء وربطهم بالجماهير وتمكينهم من تصحيح المفاهيم الخاطئة ولم شمل أبناء الجهة وتعليمهم نبذ الخلاف.
* إظهار زيف الفكر الخرافي بتقديم المبادئ الاسلامية صافية نقية من كل زيف وفق المنهج الباديسي الذي يستقي افكاره من نصوص القران الكريم والسنة النبوية الشريفة .
* السعي الحثيث لتنظيم وهيكلة الجمعية وتأسيس شُعب لها في المنطقة .
* تم فتح المدارس في مختلف انحاء المنطقة وخصوصا الوادي وقمار والزقم والرقيبة واستمرت في ما بعد في إعداد جيل أول نوفمبر ومعظم الثوار درسوا بها.
* عرفت زيارة ابن باديس سكان وادي سوف بالعلماء العاملين، فازداد إقبال الناس على أفكار الجمعية وصحفها التي كانت توزع في سوق المدينة .
* الإتصال بالقرى المعزولة و صناعة الحدث السياسي بجلوس الناس الى العلماء و السماع إليهم مباشرة و الأخذ من كلامهم و أفكارهم الإصلاحية الجديدة.
* شجعت الشيخ عبد العزيز الشريف على تكثيف معارضته للإستعمار و تحديه له إقتداءً بوالده الشيخ الهاشمي فنظم إنتفاضة سنة 1938 كما سلف ذكرها , معتمدا المنهج الثوري في وقت مبكر مخالفا بذلك منهج الجمعية .
ومن (قمار) انتقل الوفد إلى (الرقيبة) لزيارة مسجد البلدة لمصالحة الفرقاء ، حيث يذكر الشيخ محمد خير الدين : "... فقد زرنا (الرقيبة) و هي بلدة صغيرة تتنازعها طريقتان هما : القادرية و التجانية ، و قد بلغ الشقاق بينهما شأنا بعيدا فحرموا التعامل و التزاوج بينهما ، وقسموا المسجد الجامع شطرين . أقاموا في وسطه جدارا فاصلا فجعلوا من المسجد مسجدين، مسجد لهذه ومسجد لتلك وقد دعانا الشيخ عبد العزيز الى زيارة هذه الناحية واستقبلنا استقبالا حافلا فالقينا الدروس وعقدنا الاجتماعات ونظمنا الشعب ومضينا..." .
وقد كان لزيارة الشيخ بن باديس و وفد جمعية العلماء المسلمين لوادي سُوف نتائج طيبة تجلت فيما بعد نذكر منها :
* بث الوعي الوطني في المجتمع السوفي،والاتصال بالجماهير مباشرة بدون واسطة.
* كسر حاجز الخوف المضروب على المنطقة جراء الحكم العسكري بها.
* إبراز هيبة العلماء وربطهم بالجماهير وتمكينهم من تصحيح المفاهيم الخاطئة ولم شمل أبناء الجهة وتعليمهم نبذ الخلاف.
* إظهار زيف الفكر الخرافي بتقديم المبادئ الاسلامية صافية نقية من كل زيف وفق المنهج الباديسي الذي يستقي افكاره من نصوص القران الكريم والسنة النبوية الشريفة .
* السعي الحثيث لتنظيم وهيكلة الجمعية وتأسيس شُعب لها في المنطقة .
* تم فتح المدارس في مختلف انحاء المنطقة وخصوصا الوادي وقمار والزقم والرقيبة واستمرت في ما بعد في إعداد جيل أول نوفمبر ومعظم الثوار درسوا بها.
* عرفت زيارة ابن باديس سكان وادي سوف بالعلماء العاملين، فازداد إقبال الناس على أفكار الجمعية وصحفها التي كانت توزع في سوق المدينة .
* الإتصال بالقرى المعزولة و صناعة الحدث السياسي بجلوس الناس الى العلماء و السماع إليهم مباشرة و الأخذ من كلامهم و أفكارهم الإصلاحية الجديدة.
* شجعت الشيخ عبد العزيز الشريف على تكثيف معارضته للإستعمار و تحديه له إقتداءً بوالده الشيخ الهاشمي فنظم إنتفاضة سنة 1938 كما سلف ذكرها , معتمدا المنهج الثوري في وقت مبكر مخالفا بذلك منهج الجمعية .