وصلت قيادة القبائل المحلية ذروتها خلال هذه الفترة، لكنها كانت تفقد بالفعل قاعدتها السياسية. تحت السيطرة المباشرة من الضباط الفرنسيين وكان القياد لا يتمتعون بإستقلالية الحكم على الناس مثل ما كان عليه "علي باي" و "إبن إدريس" .
بعد التهدئة في جنوب تونس أصبحت الحاجة إلى القادة العسكريين في تضاؤل مستمر . في بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر تم إحصاء حوالي 250 رجلا من المتعاونين مع السلطات الفرنسية (goum) ، في التسعينيات انخفض هذا العدد إلى حوالي 50 رجل وعام 1907 كان عدد الخيالة في الخدمة الفعلية 15 فارسًا .
كما أن وظيفة زعماء القبائل في جمع الضرائب لم تعد تحضى بالشعبية , كما أصبحت الأنشطة الإدارية الفرنسية أكثر كثافة ، وكانت هناك زيادة في الطلب على الموظفين المبتدئين من السكان المحليين ، الذين يتم ترشيحهم في البداية بناء على توصية من زعماء التجانية. في ذلك الوقت كانت الطريقة الرحمانية في الواقع هي أكبر الطرق في سُوف، ولكن تم تقسيم قيادتها بين خطين متنافسين من المشايخ، وكانت بالتالي غير قادرة على لعب دور سياسي فعال .
أما الطريقة التجانية فيبدو أنها كانت تأمل في تمديد نفوذها جنبا إلى جنب مع التوسع الفرنسي في الجنوب الجزائري والصحراء . حتى الآن بدأ الضباط الفرنسيون يدركون بأن زعماء القبائل لم يكونوا من الطبقة الأرستقراطية المتعارف عليها ، وبالتالي فهم حلفاء ضعفاء إلى حد ما في أفضل الحالات . تم الاعتراف رسميا بالجماعة (مجلس المشايخ و الأعيان ) في عام 1896 ولكن هذه الأخيرة كانت مترددة في التعاون بشكل وثيق مع الفرنسيين . مع مساعدة من زعماء التجانية يأمل الفرنسيون في إقامة نوع من الشرعية لحكمهم في عيون رعاياهم من الجزائريين .
أما الطريقة القادرية فقد كان لها أتباع في بعض المناطق في سُوف منذ أوائل القرن التاسع عشر ، ولكنها ظلت صغيرة نسبيا حتى الآن . في عام 1887 قدم شقيقين طموحين من الزاوية القادرية في نفطة (جنوب تونس) إلى الجزائر وأسسا زواية قادرية في سُوف و أخرى في ورقلة . وخلافا لزعماء التجانية الذين كانوا يحبذون دائما حياة العزلة نوعا ما عن العامة ، كان الشيخ سي الهاشمي الذي جاء إلى سُوف ، شخصية تعايش الحياة العامة . واقتداء بالتجانية فإنه كان يسعى الى توسيع نطاق نفوذه من خلال العمل مع الفرنسيين بصفتة الراعي لأتباعه . معظم الضباط الفرنسيين قابلوه بنوع من الريبة وإنعدام الثقة ، كما أن القياد المحليين وزعماء التجانية الذي كانوا قد وصلوا إلى تسوية مؤقتة لم يكونوا يحبذون تقاسم غنائم السلطة مع منافس آخر و قد شجعهم في ذلك عدم الثقة الفرنسية في هذا الوافد الجديد . وقد كانت المنافسة بين التجانية و القادرية عادة ما تكون في الشؤون المحلية البسيطة و التافهة .
ولكن هذه المنافسة قد كانت قاسية في مناسبتين و بينت جانبا من الفضائح التي تورط فيها الزعماء الدينيين في سُوف و التي جذبت إليها الدعاية على نطاق واسع .
المناسبة الأولى : في 8 من شهر جوان عام 1896 أغتيل "الماركيز دي موريس" من قبل الطوارق في منطقة الحدود بين تونس والجزائر وطرابلس . كان هذا الأرستقراطي الفرنسي متزوجا من وريثتة الأمريكية ، فكان مغامرًا يشعر بجنون العظمة نوعا ما ، ورجل قيادي في الحركة ضد مناهضة السامية الفرنسية منذ التسعينات من القرن الثامن عشر . و كان يتصور أن التجارة عبر الصحراء كانت لا تزال مصدرا رائعا للثروة ، وكان يتوقع أنه سيتحصل على حصة من تلك الثروة . وعندما قام الجيش الفرنسي بحظر التنقل في الصحراء لأسباب تتعلق بالسلامة ، اعتقد "موريس" أن الضباط الفرنسيين في الجنوب كانوا يسعون لاحتكار الثروات الطائلة من التجارة عبر الصحراء لأنفسهم . لذلك فقد ذهب إلى جنوب تونس ، ثم تسلل سرًا إلى الجنوب ، وانضم إلى مجموعة من الطوارق و الشعانبة ، الذين عرضوا عليه نقله معهم إلى غدامس ، حيث قاموا باغتياله بها بعد بضعة أيام . أبدت السلطات الفرنسية في الجزائر وتونس القليل من الحماس للقبض على القتلة . كما أنهم كانوا يعتقدون أن "موريس" كان مسؤولا إلى حد كبير عن مصيره . كما رأى الجنرال قائد قسنطينة أن المشروع المفضل لديه في التحالف السلمي مع الطوارق أصبح مهددا باتخاذ أي إجراء انتقامي فرنسي . كما أن الأصدقاء الذين ينشطون ضد معادة السامية في الجزائر وفي فرنسا قد حللوا الأحداث بشكل مختلف وزعموا أن السلطات الفرنسية قد حرضت على قتل "موريس" للتخلص من خصم سياسي خطير. في سُوف بدأ زعيم القادرية الشيخ سي الهاشمي يسقط الإتهامات على منافسه الشيخ سي العروسي زعيم التجانية حيث زعم أن الشيخ سي العروسي هو من حرض على القتل . إذ كان سي العروسي يسعى في الواقع إلى توسيع نفوذه بين الطوارق ، وربما كان غير راغب مثل السلطات الفرنسية نفسها في تقويض هذه الجهود عبر تتبع هؤلاء القتلة . في يونيو 1898 عند قيام شقيق الشيخ سي الهاشمي الشيخ محمد الطيب زعيم الزاوية القادرية في ورقلة بجولة في الصحراء ، إلتقى خلالها بثلاثة من القتلة ، فكان قادرا على مرافقتهم، ومن ثم تسليمه إلى السلطات الفرنسية في جنوب تونس . وقد تلقت السلطات الفرنسية هذه الهدية بشيء أقل من الحماس. لأنها قد جعلتها في وضعية محرجة تجاه أصدقاء السياسية . قادة القادرية ربما قد بالغوا كثيرًا في تقديرالنفوذ السياسي للحركات ضد مناهضة السامية و اعتقادهم بأنها تشكل تحالف قوي مع المعارضة الفرنسية . فالسلطات تستطيع بصعوبة أن ترفض جلب القتلة إلى المحاكمة ، ولكن لم يكن هناك أي دليل على وجود أي مؤامرة في هذه القضية ، ولكن الجدل استمر حول هذه القضية لعدة عقود.
المناسبة الثانية : في عام 1899 قدم إلى وادي سُوف من أجل هذه القضية أيضا "إيزابيل إيبرهارت" كانت هذه الفتاة الروسية المهاجرة في بداية العشرينات من العمر. قد أصبحت في رحلة سابقة مفتونة بشمال أفريقيا بصفة عامة و بوادي سوف على وجه الخصوص . و كانت قد اعتنقت الإسلام ، وكانت تتنقل و هي ترتدي زي الفتيان العرب . في عام 1899 التقت بأرملة "موريس" في باريس فعرضت عليها مبلغًا من المال من أجل العودة إلى سُوف لجمع المعلومات حول هذه القضية التي يبدو أنها قد لقيت منها القليل من الاهتمام بمجرد ذهابها إلى هناك . انضمت إلى الطريقة القادرية لتأمن لنفسها بعض الحماية الغير رسمية من الشيخ سي الهاشمي وبدأت علاقة غرامية بينها وبين جندي جزائري من فرقة الصبايحية يعمل هناك في الحامية المحلية ، و قالت بأنها ستتزوج به في وقت لاحق .
تابع القائد الفرنسي النقيب "كوفات" " Cauvet " ظاهرة هذه الفتاة الأوروبية بنوع من الإنبهار و الريبة .
في يناير 1900 زارت "إيزابيل" قرية البهيمة مع الشيخ سي الهاشمي ، فتعرضت هناك لهجوم بالسيف على يد متطرف ديني وأصيبت في ذراعها. وكان الجاني من أتباع الطريقة التجانية ، و قد أعلن أنه تصرف بهذا الشكل لأن "إيزابيل" أقدمت على إهانة الإسلام من خلال ملابسها الرجالية وسلوكها .
|
إيزابيل إيبراهارت
|
مع ذلك قام النقيب "كوفات" " Cauvet " و القياد المحليين وزعماء التجانية بنشر الشائعات بأن الجاني كان يتبع الطريقة القادرية سرًا و قد حاول قتل "إيزابيل" بناءً على تعليمات من الشيخ سي الهاشمي ، الذي كان يفترض أنه عشيقها و لكنها كانت تنظر إليه كرفيق . من أجل المساومة إلى حد ما . لكن ذلك يبدو من غير المحتمل تماما تاريخيا . فقد عرف سي محمد بأن "إيزابيل" تعتزم المغادرة إلى باتنة حيث تم نقل رفيقها إلى هناك . فإذا كان يريد التخلص منها لأي سبب ، فكان بإمكانه قتلها بسهولة حين كانت تتجول في سُوف بمفردها. و أيضا فإنه يعد من العيب أن يتعرض ضيف على زعيم عربي له مكانة مرموقة لهجوم في حضوره . و إذا كانت هناك أي مؤامرة في هذه القضية فإنها قد تكون محاولة من التجانية لدفع سي الهاشمي لتقديم بعض التنازلات . لكن لا شيء من ذلك يمكن إثباته حول هذه الحادثة ، ومع ذلك فقد تم طرد "إيزابيل إيبرهارت" (مؤقتا) من الجزائر لاتهامها بتعكير صفو السلام هناك.
استمر العداء بين التجانية و القادرية على الأقل لأكثر من عقدين . إذ لم يحرز سي الهاشمي على ثقة الفرنسيين ، و مع ذلك فقد نجح في كسب العديد من الأتباع الجدد للطريقة القادرية و خصوصا خلال الحرب العالمية الأولى عندما عارض الحظر الفرنسي على التجارة مع غدامس التي كانت تشهد حالة من التمرد ضد الإيطاليين ، كما قام في نوفمبر 1918 بتنظيم مظاهرة مناهضة للفرنسيين بعد أن قام الفرنسيون بتجنيد العمال الجزائريين للعمل في فرنسا و ما تلى ذلك من شائعات حول أن الفرنسيون يعملون ذلك كغطاء من أجل تجنيدهم لاحقا للعمل في الجيش بفرنسا . كما قام حشد من الناس بقيادة الشيخ سي الهاشمي بالاعتصام أمام مكتب القائد الفرنسي . استغل الفرنسيون هذه الفرصة و قاموا بنفيه إلى تونس لفترة من الوقت . توفي الشيخ سي الهاشمي في عام 1923 كما توفي ابنه البكر بعده بفترة وجيزة . قام ابنه الأصغرسي عبد العزيز بالتصالح مع زعماء التجانية في عام 1924 . إذا كان سي عبد العزيز شخصية ضعيفة ، ولذلك فقد اكتسب نفوذا سياسيا ضئيلا . في عام 1938 قام بتأييد أول مظاهرة وطنية في الواد ، فتم نفيه فيما بعد إلى تونس . كما أن خلفاء الشيخ سي العروسي من زعماء التجانية فيما بعد كانوا يتصفون بالكثير من ضعف الشخصية و ابتداء من العشرينات كانت الهيمنة السياسية من قبل الزعماء الدينيين شيئًا من الماضي ، على الرغم من احتفاظهم بالعديد من الأتباع إلى يومنا هذا . و بداية من الثلاثينات أصبحت المبادرة السياسية في أيدي الوطنيين الجزائريين ، الذين كانت قياداتهم تنتمي للفئات الاجتماعية الأخرى (رجال الأعمال، والعمال المهاجرين، والشباب المتكونيين على النمط الغربي) دون النظر كثيرا لانتماءاتهم القبلية أو الدينية . القياد و المشايخ أصبحوا على نحو متزايد دمى لدى السلطات الفرنسية دون تأثير أو هيبة خاصة بهم ، وغالبا ما كانوا غير أكفاء حتى في أعين أسيادهم . احتفظ الزعماء الدينيين بهيبتهم أطول مدة من القادة العلمانيين ، لأنهم كانوا أقل تورطا في الأعمال و الأنشطة التي لا تحظى بشعبية مثل جمع الضرائب أو قمع التهريب . مع ذلك فإنه على المدى الطويل أصبح واضحا جدا ، أنهم لم يتمكنوا من إحداث تغيرات أساسية كبيرة في السياسة الفرنسية . كما أن إنتشرالإسلام البعيد عن تأثيرات الطرق الصوفية من قبل جمعية العلماء المسلمين في عشرينيات و ثلاثينيات القرن العشرين أصبح أكثر و كان له بعض التأثير في سُوف، وبخاصة في قرية "الزقم" . و قد تلقت الطرق الصوفية دعما أكبر في عام 1945 قبل نصف قرن لأن الناس لم يبحثوا عن قيادات سياسية كبيرة في ذلك الوقت .
وكانت كل من القيادة العلمانية والدينية في المناطق القبلية التقليدية خاضعة لقواعد المنافسة المستمرة والتنافس . كانت القيادة العلمانية ضعيفة جدا في سُوف في أيام ما قبل الاحتلال ، و لكنها أصبحت أكثر أهمية وو ضوح بين عامي 1860 و 1890 عندما أصبح زعماء القبائل يشكلون وساطة فعالة مع السلطات الخارجية . لم تشكل الزعمات الدينية ولا العلمانية أرستقراطية وراثية ثابته . فالقيادة تميل إلى أن تكون وراثية لكن المنافسة المستمرة جعلت هذه الوراثة ضعيفة سرعان ما أزيلت بسرعة و هو ما دفع إلى بروز كفاءت أخرى إلى الصدارة. و مع ذلك لم تسمح السلطات الاستعمارية لهذا النوع من الاضطرابات السياسية والدينية أن تؤدي لاختيار قادة أكفاء ولم تقم باستبدالهم ببعض العمليات الانتخابية الفعالة من أجل الاختيار . فقد تبين أن كلا من القيادة العلمانية والدينية قد أصبحتا أكثر وراثية مما كانتا عليه من قبل ، حيث أنها عانت من مصير جميع المؤسسات العائلية المغلقة ، ففي غضون بضعة أجيال سيأتي حتما إلى السلطة وريث غير كفء . البرجوازية التجارية التي كانت موجودة بالفعل في أيام ما قبل الاحتلال و التي لم تكن تمارس القيادة السياسية هي الوحيدة القادرة على الحفاظ على مكانتها ، فقد ظلت المنافسة التجارية ممكنة ، و حركة العبور من وإلى تونس وليبيا لا يمكن حظرها أبدا بفعالية . كما أن المنافسة من قبل رجال الأعمال الفرنسيين لم تكن قوية في الجنوب . التجار أيضا لديهم المال الذي يمكنهم من أن يقدموا لأبنائهم تعليمًا حديثًا وتأهيلهم لشغل وظائف حكومية في الجزائر المستقلة . بعض العائلات التجارية القديمة ترتبط ارتباطا مباشرًا بالهياكل الاجتماعية بسُوف في القرن التاسع عشر .
إنتهى