تمهيد :
قال الله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ »
ليس المقصود بالتطرق لموضوع قبائل و أصول المجتمع السُوفي العودة للنعرة القبلية الضيقة ، أو لتمييز فئة قبلية بذاتها عن باقي الفئات ، فتاريخ وادي سُوف الطويل يشهد بأن أهل المنطقة جميعهم قد عاشوا في ألفة و محبة و تعاون ، وعانوا من نفس الظروف القاسية إبان الحقبة الاستعمارية ، كما أنهم هبوا جميعا للدفاع عن أرضهم و عرضهم ضد المحتل الفرنسي الغاشم ، كما أنهم قد قدموا قوافل من الشهداء ابان ثورة أول نوفمبر التحريرية المجيدة عام 1954 ، و لكن هذا لا يمنعنا من العودة إلى الوراء لنتعرف على تاريخ وأصول و مكونات أجدادنا ، وظروف معيشتهم في تلك الفترة "بداية الخمسينات من القرن الماضي".
الجزء الثاني : وادي سُوف أعراق و أصول
قدر عدد سكان وادي سُوف في عام 1887 بـ 23000 نسمة كما أن عددهم قد تجاوزالـ 100000 نسمة في عام 1950.
إن تتبع منشأ السُوافة (Souafa) أي سكان سُوف ليس سهلا فقد مرت بسُوف العديد من الشعوب الأصلية القديمة، فقد كان الوندال المسيحيين يتم ترحيلهم إلى سُوف و ما زالت الأساطير التي تتحدث عن ذلك حتى الآن.
ثم أتى العرب و منهم "بنو عُدوان" (Adouane) وبعضهم يدعي أنهم أحفاد القبائل الأولى التي استقرت بالمنطقة وخصوصا طُرود (Troud) الذين وصلوا إلى المنطقة في القرن الثالث عشر والذين هم جزء من "بني سُليم" (Soleim) ومعظم البدوالذين يقولون إنهم أسلافهم.
ما هي نسبة كل عنصر في عدد السكان حاليا ؟
دعونا لا نتوقف مع هذه القضية ... ودعونا نلاحظ أنه من السهل تمييز بما يكفي أن العناصر الغالبة بين السكان هي العناصر البدوية العربية إلى جانب عدد قليل من الزنوج .
آخر الوافدين إلى وادي سُوف هم "الشعانبة"(Chaamba)، الذين ألحقوا بقبيلة المصاعبة (Messaba) أما "الربايع" (Rebaia) و"القطاطية" (Guettatia) فقد اعتمدوا على قايد الأعشاش (Achèche).
الشعانبة Chaamba :
ينقسم شعانبة الوادي الذين يستقرون بالجنوب الغربي لملحقة الوادي ، إلى :
1)أولاد غدير (Guédir): الذين ينحدرون من نسل أولاد فرج من المنيعة (El-Goléa) الذين جاؤوا في القرن السابع عشر بحثا عن مراعي في العرق الشرقي بعد أن عانوا لعدة سنوات متتالية من الجفاف .
2)أولاد عمران (Ouled Amrane): الذين لجأوا إلى الجنوب في القرن 19، بعد معركة قتل فيها جدهم عمران منافسه المير (El-Mir) ويقال أن هذين الخصمين المتنافسين ينتميان إلى عشيرة من أولاد بوسعيد بورقلة.
لديهم أشجار النخيل في منطقة عميش (Amiche) و في وادي العلندة (Oued el Allenda) فكانوا يعيشون في منازلهم قليلا من الوقت وخاصة في موسم جني التمور أما الرعاة فيبقون في الصحراء.
ومن بينهم يتم توظيف أفضل وأكثر عددا من الجمالة "المهاريس" (Meharists) للجمعية في العرق الشرقي ومقرها في الوادي. ( هم عبارة عن فرع من المجندين الذين يركبون الجمال و يعملون كأدلاء في الصحراء).
الربايع Rébaïa :
النواة المركزية للربايع (Rebaia) هي في الأصل من جنوب تونس، وهي منطقة بالقرب من حدود طرابلس. ولا يزال لديهم أقارب في منطقة نالوت بليبيا .
وصلوا لأول مرة إلى منطقة تماسين (Temacine) قرب تقرت، ثم طُردوا منها من قبل مشايخ التجانية (Tidjania) الذين أرغموهم على ترك الطيبات القبلية (Taïbet el Gueblia) حين أتوا لتوسيع نفوذهم فيها.
فذهب جزء كبير منهم باتجاه الأغواط مرورا بوادي الجدي أما البعض الآخر فقد أتوا إلى سُوف في القرن 19 في مجموعات صغيرة من مختلف الأصول ولكنها كانت تأتي من الشرق في معظمها.
حاليا، يوجد جزء من (Rébaïa) الربايع يمثلون حوالي 14.000 نسمة لديهم أشجار النخيل، ويميلون إلى حياة الاستقرار في ضواحي المنطقة.
فنجدهم في الرقيبة (Reguiba)، و في حاسي خليفة (Hassi Khalifa)، و المقرن (Magrane). ولكن في الغالب نجدهم يتركزون في منطقة عميش (Amiche) والبياضة. المراعي الخاصة بهم واسعة جدا. و يسافرون في جميع أنحاء الجزء الشرقي من ملحق الوادي و يخيمون في كثير من الأحيان قرب الحدود أو في الأراضي التونسية.
القطاطية Guettatia :
أما القطاطية (Guettatia) فقد أتوا مؤخرا من ليبيا و تقاسموا المراعي مع الربايع في المنطقة الجنوبية الشرقية و العرق الشرقي .و لكنهم يميلون للحفاظ على استقلاليتهم.
و مع أن هذه المجموعات الثلاثة الشعانبة و الربايع و القطاطية كانت آخر المجموعات القادمة لمنطقة وادي سُوف إلا أنها لازالت أكثر تعلقا بتقاليد البدو الرحل التي جلبوها للبلاد و من بين العادات الأخرى التي تحمل تأثيرات شرقية كرقص الخيول التي تثير المفاجأة و الدهشة في الأوساط الإسلامية.
ففي بعض المهرجانات و الاحتفالات تقوم الفتيات و الأرامل الشابات برفرفة شعورهن الطويلة الفضفاضة "ما يسمى بالنخان" على إيقاع الأغاني البدوية و الأهازيج التي يرددها الرجال و الشيوخ من الشعراء و المغنين التي تدعو إلى تمجيد سحر الأحبة أو معاناة حبهم . أنظر ( القائد فيري : رقص الشعور (أشغال معهد الأبحاث الصحراوية المجلد 1950 VI )
طرود Troud :
أما طُرود فهم أقدم البدو الذين عاشو في ملحق الوادي (l'Annexe d'El-Oued) كما أنهم يمثلون إداريا الجزء الأكبر من سكان القبيلتين الرئيسيتين : الأعشاش (Achèche) و المصاعبة (Messaaba) .
وينحدر هؤلاء من جزء بسيط من بني سُليم (Soleim) الذين وصلوا إلى الجزائر في القرن الثاني.هذا على الأقل هو ما يزعمون، ولكن يبدو أنهم قد اختلطوا مع أجناس أخرى كبنو هلال. الذين لم يسلم سكان البلاد في ذلك الوقت من غزوهم ومن غير المرجح أن بنو هلال قد اختفوا تماما، خصوصا أنهم كانوا قد اعتنقوا الإسلام، فيجب أن يفهم ذلك أنه أمكن استيعابهم تدريجيا من قبل المجتمعات التي قاموا بغزوها.
و تشمل قبائل طرود ما يلي:
*** أولاد جامع (Ouled Djamaa) و أولاد أحمد (Ouled Ahmed) و الفرجان (Ferdjane) و يتبعون إلى قايد الأعشاش .
*** الشبابطة (Chebabta) و العزازلة (Azezla) و يتبعون قايد المصاعبة .
عندما دخل الفرنسيون إلى وادي سُوف تخلى العديد من هؤلاء عن خيامهم و عن حياتهم البدوية فوجدت بلدة الوادي الصغيرة بجانب حي العزازلة و أولاد أحمد و أولاد جامع ثم إزدادت حركة النزوح و الاستيطان.
و لكن لا زالت كل عائلة من بين خمس عائلات تعلق وجودها بشدة في الصحراء واقتصر تدريجيا بطبيعة الحال في المنطقة الخاضعة للعرق الشرقي كما أنهم أصبحوا معتادين على تثبيت خيامهم بالقرب من القرى في أغلب أشهرالسنة.
كما أن لعلاقتهم بإخوانهم الذين يعيشون حياة الاستقرارا تأثيرا كبيرا عليهم.
وباستثناء جماعات الشعانبة و القطاطية التي ظلت على حالة البداوة والترحال أي ظلت على حالها تقريبا، فإن الربايع قد قل تواجدهم نسبيا عن هذه الحالة بفعل التطور الاجتماعي والتي يقودها القانون الذي لا يرحم.
لكن الكتلة البدوية من الأعشاش و المصاعبة أخذت في التناقص يوما بعد يوم . و الذين يمكننا تقدير عددهم بحوالي 30.000 نسمة و التي تشكل الكتلة المستقرة التي تعيش على زراعة النخيل.
أولاد سعود Ouled-Saoud :
هذه الكتل المستقرة التي تشمل بالاضافة للأعشاش و المصاعبة هناك قبيلة أولاد سعود (Ouled-Saoud ) الذين يستقرون بمنطقة قمار و يعيشون على زراعة النخيل.
و لذلك فيمكننا القول أن مجموع السكان الذين يعيشون حياة الاستقرار بسُوف و يعتمدون في معيشتهم على جني و بيع التمور يقدرون ما بين 60 إلى 70.000 نسمة في المجموع.
معيشة السكان (السوافة) :
يشتغل معظم السوافة (Souafa) في أعمال صعبة و شاقة .فيبدؤون عملهم من الفجر إلى غاية الليل فيقومون بابعاد و رفع الرمال التي تغزو بساتين النخيل "الغيطان" كما يقومون بسحب المياه من الآبار لري مربعات صغيرة لزراعة الخضار كما يتم في كل عام تغيير التربة على عمق ثمانين سنتيمترتقريبا. انهم يعيشون حياة قاسية.
غذاؤهم الرئيسي هو التمر و القليل من خبز القمح أو الشعير أما لباسهم في الصيف فقميص من القطن مع حزام ضيق أما في الشتاء فيلبسون "قندورة" (gandoura) من الصوف منسوجة من قبل زوجاتهم.
يمكن للمرء أن يشعر بتعاطف عميق معهم عند زيارة بساتينهم كما يمكنه أن يلاحظ الكثير من البؤس و الآلام لكن ذلك لا يقلل من الصفات الأخلاقية الحميدة التي يتمتعون بها.
عادات عريقة و أخلاق حميدة :
فعلى سبيل المثال في قرية ورماس الصغيرة (Ourmes) على وجه الخصوص قد لمست وداعة سكانها و لطافة تصرفاتهم و كرمهم و صدقهم و ترحيبهم بالضيوف .
هؤلاء المزارعين الفقراء يعرفون كيفية تنفيذ أعمال خيرية. فقد كان تضامنهم و تعاطفهم واضحا عام 1946 عندما لجأ إلى وادي سُوف حوالي 20.000 من النمامشة (Nementcha) من منطقة تبسة و الذين كانوا يعانون من حياة البؤس والجوع .
أقل تعاطفا ربما مع سكان أهم المراكز من الأثرياء و البورجوازيين الذين يعيشون حياة أقل صعوبة .
أحيانا أصحاب البساتين التي يتم الاحتفاظ بها من قبل الخماسة فهي تولد الإيرادات في المقام الأول من التجارة.يظهروا أنفسهم القدرة والمخضرمين.
كما تجد بالقرب من المحلات التجارية التي تبدو رثة ، العمال الموسميين الذين يتقاضون مبالغ زهيدة يوميا.
وهناك من ليس لديهم موارد محددة بشكل واضح، مثل الذين يدعون "بالشماسة " (chemassa) الذين يتسكعون في الغالب في الشمس، ينتظرون وقوع حوادث أو مشادات بين الناس فيكونون من المتفرجين عليها و تكون الترفيه الخاص بهم .
الكثير من الأطفال يلعبون و يمرحون في مجموعات كالرهبان و يمكنك سماع صراخهم و صياحهم و خاصة بين الحشود .
الخاتمة :
كم هو رائع مشهد الكثبان الرملية العظيمة في العرق الشرقية، والمنازل ذات القباب، والمناطق التقليدية ، والنساء و هن يرتدين الملابس السوداء، ويتزين بمجوهرات من الفضة و أهالي الوادي وهم يتجهون لقضاء شؤونهم.و لا يمكن لمن عاش في هذه البلاد إلا أن يحبها و يشده الحنين إليها كما لا يمكنه إلا استحضار ذكرياته مع السوافة في أشغالهم و معاملاتهم . إنها مدينة الألف قبة وقبة ذات السحر الآخاذ والتي وصفتها "ايزابيل أبراهاردت" جيدًا (Isabelle Eberhardt) :« المدينة الرمادية التي فقدت في الصحراء الرمادية كم تغمرني السعادة في الصباح الوردي الذهبي الأبيض أو في وهج الظهيرة الذي يعمي الأبصار أو في المساء ذو الاشعاع الأرجواني و البنفسجي ... رمادي رمادي مثل الرمال التي ولدت فيه تحت سماء الشتاء الشاحب » .
القائد فيري : (Commandant Ferry)
ملاحظة : يمكن لمن يريد نسخ أو نقل هذا الموضوع و لكن يرجى ذكر المصدر فقد أخذت مني ترجمة هذه الدراسة و قتا و جهدا معتبرا و شكرًا.