تقديم:
قدمت منطقة "سُوف" كغيرها من مناطق هذا الوطن الغالي في كل مرحلة من مراحل الكفاح الطويل
ضد المحتل الفرنسي المئات من الأبطال من مناضلين و مجاهدين و شهداء .
و كما أسلفنا في موضوع الاحتلال الفرنسي لوادي سُوف سابقا فإن المنطقة لم تعرف الاستقرار إلا بعد أن تمكن المحتل الفرنسي من القضاء على أغلب الثورات و المقاومين بمنطقة الجنوب و الصحراء بقوة السلاح. كمقاومة "سي النعيمي" , "محمد بو علاق اليعقوبي" , "بن ناصر بن شهرة" , "بوشوشة" و "الشريف محمد بن عبد الله" ... .
إلا أن هذا الهدوء و الاستقرار النسبي بالمنطقة لم يدم طويلاً كما كان يتمناه المحتل .
فسرعان ما تجددت المواجهات و ارتفعت الأصوات المنادية برفع مظالم المحتلين و أعوانهم المسلطة على أهل "سُوف" و الداعية للاصلاح و الحرية و خاصة في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين و قبيل الحرب العالمية الثانية وعند إندلاع ثورة أول نوفمبر التحريرية الكبرى .
و لعل أهم صور ذلك النضال و الجهاد و الوقوف في و جه المحتل الفرنسي و حاكمه العسكري بالمنطقة و "قياده" من الصبايحية و المتعاونين معهم , في بدايات القرن العشرين ما قام به الشيخ محمد الهاشمي شيخ الزاوية القادرية أنذاك و دوره في إشعال الثورة و التمرد عن سلطات الاحتلال و التي عرفت فيما بعد بـ "هدة عميش" .
كما لا ننسى الدور الكبير لابنه الشيخ "عبد العزيز الشريف" الذي لم يكل و لم يمل في محاولات إصلاح الأوضاع المتردية لأهل المنطقة و في استرجاع حقوقهم المسلوبة من سلطات الاحتلال و أعوانه و هو ما كلفه السجن و النفي و الإبعاد عن أرض الأباء و الأجداد لمدى الحياة .
و فيمايلي سنستعرض أهم و أبرزمحطات حياة هذا المجاهد البطل:
هو عبد العزيز بن الشيخ محمد الهاشمي بن ابراهيم بن أحمد الشريف، هاجر جده الأول الشيخ ابراهيم إلى الجريد بالجنوب التونسي و استقر بمنطقة نفطة لينشط ضمن الزاوية القادرية هناك .
و قد أنجب ابراهيم ابنه محمد الهاشمي سنة 1853 الذي عاد إلى أرض الوطن سنة 1892م حيث أسس الزاوية القادرية بالبياضة "عميش" ليواصل نشاطه الديني و الفكري على غرار آبائه وأجداده الأولين.
وهناك بقرية البياضة "عميش" بوادي سوف ولد عبد العزيز الشريف بزاوية والده محمد الهاشمي سنة 1898م و قد واجه الشيخ محمد الهاشمي منافسة شديدة و مريرة من طرف الزاوية التجانية المجاورة له في البياضة و المنتشرة في قرى ومداشر وادي سوف .
و كانت السلطات الفرنسية تزكي هذا التنافس، بل و تثير النعرات و الفتن بين الطريقتين و تدس أعوانها بين الزاويتين لإشعال النيران بينهما ضمن سياسية "فرّق تسد".
و قد تفطن الشيخ الهاشمي إلى مكايد الإدارة الفرنسية فعمل على محاربة الاستعمار الفرنسي، فاستغل ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى ليفجر ثورة عارمة في المنطقة، عرفت بـ "هدّة عميش"، و هذا من أجل تخليص البلاد من ظلم المحتل و أعوانه.
و بعد هدوء العاصفة، وجهت السلطات الفرنسية بالوادي تهمة التمرد على فرنسا إلى الشيخ الهاشمي و اعتقلته يوم 15 نوفمبر 1918 م لينقل بعد ذلك إلى سجن بسكرة ، و منه إلى سجن "الكدية" العسكري بقسنطينة ريثما يقف أمام المحكمة العسكرية التي أصدرت ضده فيما بعد الحكم بالنفي من الوادي لمدة سنتين . . و في جويلية 1920 رجع الشيخ الهاشمي إلى وادي سوف و حاول التعديل من مواقفه السابقة تجاه الزاوية التجانية و حتى تجاه السلطات العسكرية الفرنسية، و نصب كل اهتمامه في تطوير زاويته و توسيع نفوذها و ثرواتها . . و بدأ أيضا في تهيئة خليفة له فتوسم الخير في ابنه عبد العزيز الذي لاحظ عليه الفطنة و النجابة و سرعة البداهة، ذلك أنه حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة حفظا جيدا. ثم غادر الوادي سنة 1913 ليلتحق بجامع الزيتونة المعمور بتونس ليزاول تعليمه هناك. فتحصل على شهادة التطويع في حياة والده بامتياز، وعاد إلى الوادي سنة 1923، فوجد والده قد أوقف زاوية "عميش" و فروعها على أولاده الثلاثة، و اشترط في وصيته أن من يخلفه على رأس الزاوية و إدارة أملاك العائلة أن يكون حائزا على شهادة التطويع و عند وفاته في شهر سبتمبر 1923، لم يتوفر هذا الشرط إلا في ابنه الأصغر عبد العزيز، و كان عمره يقارب الخامسة و العشرون سنة في ذلك الوقت ورغم ذلك فقد آلت مشيخة الزاوية إلى الأخ الأكبر عبد الرزاق و لكنه لم يعمر طويلا في هذا المنصب بسبب حالته الصحية المتدهورة، فتوفى بعد ثلاثة أشهر من تنصيبه على رأس الزاوية في شهر ديسمبر 1923.
تحول الشيخ عبد العزيز الشريف من الطرقية إلى الإصلاح :
أصبح الشيخ عبد العزيز المؤهل الوحيد لمشيخة الزاوية باعتباره المتخرج الأول من جامع الزيتونة، فضلا عن كونه مشهورا بذكائه و فصاحة لسانه و وضوح بيانه، كما كان الشيخ أديبا ظريفا لبقا ، لهذا تم الإجماع على أن يتولى مشيخة الزاوية القادرية في سُوف مع ملحقاتها في كل من تقرت و بسكرة و سكيكدة و الجزائر العاصمة .
سار الشيخ عبد العزيز على خطى والده في تسيير شؤون الزاوية و تنظيم شؤونها لعدة سنوات .
و في سنة 1936م قام الشيخ عبد العزيز بأداء فريضة الحج . فزلزل هذا الحدث كيانه، لأن المشرق العربي في تلك السنة، كان يعج بأحداث تاريخية و غليان سياسي يتمثل في مواجهة الاستعمار الأوروبي، ففي مصر أبرمت معاهدة 1936، اعترفت فيها بريطانيا بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة .أما سوريا فقد عاشت ثورة 1936 لطرد المحتل الفرنسي، و في فلسطين اندلعت الثورة الكبرى و كادت أن تنتصر و تخلص البلاد من الانتداب البريطاني و النفوذ الصهيوني . كما عرف العراق في هذه السنة أيضا انقلابا ألغيت على إثره المعاهدات الجائرة .
مكث الشيخ عبد العزيز بالمشرق العربي ما يقرب السنة و عايش هناك بعض من هذه الأحداث السالفة الذكر، فأثرت فيه و تشبع بأفكار جديدة وجدت صداها في نفسه وقلبت كيانه رأسا على عقب و أخرجته من نطاق التفكير التصوفي الضيق و من المناوشات و التنافس مع الطرق الصوفية الأخرى إلى نطاق أكبر و أعم ألا وهو البحث عن المنهج القويم لاصلاح هذه الأمة و فك قيودها من هذا المحتل الغاشم الذي شتت عراها و فرق بين أبنائها و نهب خيراتها و استعبد أبنائها .
لما عاد الشيخ عبد العزيز إلى مسقط رأسه بدأ في الإقترب من أفكار جمعية العلماء المسلمين التي طفحت على سطح الأحداث في تلك الفترة . و انضم إليها كعضو فعال و بارز فيها بحكم إمكانياته العلمية و المالية و الإجتماعية.
ففي المؤتمر السنوي العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي بدأ أعماله يوم 24 سبتمبر 1937 بنادي الترقي بالعاصمة قدم الشيخ ابن باديس بعض كبار الرجال الذين لهم أكبر الأثر في بعث النهضة الجزائرية من جمعية العلماء، منهم الشيخ الفضيل الورتلاني و الشيخ سعيد صالحي ...و غيرهم من الشيوخ.
ثم طلب من زميله الشيخ الطيب العقبي أن يقدم الشيخ عبد العزيز بن الشيخ محمد الهاشمي إلى الحاضرين، و كان لهذا التقديم مغزاه العميق، إذ هو شهادة في الواقع بانتهاء المعركة مع مناهضي جمعية العلماء من أتباع الطرق الصوفية، ذلك أن "الشيخ عبد العزيز كان من شيوخ الطرقية. أما اليوم فيجب أن تعرفوه بأنه جندي من جنود الإصلاح و عضو من أعضاء جمعية العلماء المسلمين".
ثم أحيلت الكلمة إلى الشيخ عبد العزيز الذي أبدى تأسفه لتأخره في الإنضواء تحت لواء الجمعية، و وعد بأنه سيبذل كل مجهوداته في خدمة الإصلاح و تبرع لهم بمبلغ خمسة و عشرين ألف فرنك فرنسي قديم و هو مبلغ هام في ذلك الوقت.
الشروع في الإصلاح والمواجهة مع سلطات الإحتلال :
و قد أثار هذا النشاط المتزايد للشيخ عبد العزيز حفيظة السلطات الفرنسية بالوادي، و أظهروا مخاوفهم من تسرب أفكاره الإصلاحية إلى المنطقة، فيزعزع كيانهم، و يكذب إدعاءاتهم بأن الصحراء هادئة و آمنة .
وقد رتب الشيخ عبد العزيز زيارة لوفد من جمعية العلماء المسلمين بقيادة الإمام عبد الحميد بن باديس إلى الوادي في شهر ديسمبر من سنة 1937م لشرح و تكريس أفكار الحركة الإصلاحية بالمنطقة.
كان لهذه الزيارة الأثر العميق عند الشيخ عبد العزيز، فدفعته لتكثيف نشاطه و تنقلاته عبر القرى و المداشر شمالا و جنوبا "كالبهيمة" و "الزقم" و "الدبيلة" و "المقرن" معقل الطريقة التجانية أنذاك و لهذا فقد تعرض في "المقرن" إلى مضايقات من القياد و مقاديم التجانية، كما زار "قمار" و "وادي العلندة" و "الرباح" و "العقلة" و غيرها لنشر أفكار الحركة الإصلاحية و الدعوة لها ضمن التوجيهات الدينية و العلمية لإحياء نفوس الناس و تنبيههم من غفلتهم و إيقاظ ضمائرهم لإنارة الطريق الصحيح لهم.
و في هذا الإطار نظم الشيخ عبد العزيز زيارة للشيخ الفضيل الورتلاني إلى الوادي في شهر جانفي 1938م بدون رضا من خلية الجمعية بوادي سُوف في تلك الفترة . لأن الشيخ الورتلاني رحمه الله يتقد حماسا و يتسم بمواقف صريحة و نقد لاذع ، مما قد يصعب من عمل الخلية و أن تستغل سلطات الاحتلال ذلك كذريعة للتضيق عليهم و وقف أنشطتهم.
فكان لهذه الزيارة الصدى الواسع عند الناس لما طرحته من مواضيع ساخنة أغضبت الحاكم العام الفرنسي الذي بدأ يترصد خطوات الشيخ عبد العزيز و يضمر له الشر، و لكن الشيخ لم يبال بملاحظات الإدارة المحلية و زاد من تحركاته و عقد عدة اجتماعات بالوادي و "عميش" لفضح أعمال القياد و أعوان الإدارة الإستعمارية.
اهتم الشيخ عبد العزيز بنشر العلم فقام بتأسيس مدارس وفق مناهج جمعية العلماء ، فحول جزء من زاوية "البياضة" إلى أقسام للتعليم العصري، و في شهر مارس 1938 و بعد بيع محصول التمور، وظف نقود هذه العملية في تهيئة زاوية الوادي التي شرع فيها أبوه منذ سنوات خلت لجعلها مركزا للتعليم تستوعب أكثر من خمسمائة طالب جزء منهم يخضع للنظام الداخلي ، و استقدم لها معلمين أكفاء كالشيخ "علي بن ساعد" و الشيخ "عبد القادر الياجوري" المعروفين بغزارة علمهما و براعتهما في ميدان التعليم و الإرشاد، كما درس في هذه المدرسة الشيخ "العروسي ميلودي" و الشيخ "معراج دربال" و غيرهم، فعرفت المنطقة بذلك حركة علمية عملت على نشر الوعي الفكري و الحضاري ، فأثار ذلك مخاوف السلطات الاستعمارية الفرنسية ، فحاولت معارضتها و هدمها . فقد استدعى الحاكم الفرنسي الشيخ عبد العزيز و طلب منه الرخصة في شأن المدارس التي افتتحها فرد عليه الشيخ عبد العزيز بأن الزوايا من قديم الزمان تعلم بدون رخصة و تكرر الأخذ و الرد بينهما في هذا الأمر ففهم الشيخ أن الإدارة الفرنسية مستأة للغاية مما يقوم به من حركة إصلاحية و ستعمل على إعاقته بشتى الوسائل .
علم الشيخ عبد العزيز أن السيد (ميلييوت) (MILLIOT) المدير العام للشؤون الأهلية و أقاليم الجنوب سيقوم بزيارة تفقدية إلى الوادي يوم 12 أفريل 1938، و لهذا عزم الشيخ على تنظيم مظاهرة احتجاجية على تصرفات السلطات المحلية مستغلاً حضور هذا الموظف الفرنسي السامي.
فاستدعى الحاكم العسكري بالوادي الشيخ عبد العزيز يوم 12 أفريل في الصباح ليعلمه رسميا أن أي مظاهرة ممنوعة، فرد عليه بأن المظاهرة ستنظم مهما كانت الظروف ، و فعلا بعد ظهر يوم 12 أفريل و بمجرد وصول السيد المدير العام تظاهرت جماهير غفيرة قدرتها الوثائق الاستعمارية بحوالي 1200 شخص، اعتصموا بشباك مقر الحاكم العسكري إلى الساعة الثامنة و نصف ليلا.
استقبل السيد (ميلييوت) المدير العام للشؤون الأهلية و أقاليم الجنوب الشيخ عبد العزيز و دارت بينهما مفاوضات عسيرة استغرقت حوالي ثلاثة ساعات تمحورت حول مطالب الأهالي ، الذين يعبرون عن غضبهم من تصرفات المصالح الاستعمارية، كما قدم شكوى بالحاكم العسكري بالوادي المتواطيء مع قياد المقرن و مشايخها الذين ضايقوه و لم يفعل لهم الحاكم العسكري شيئا.
و يمكن إجمال ما جاء في عريضة المطالب التي رفعها الشيخ عبد العزيز باسم الأهالي في النقاط التالية :
* رفع الظلم و التعسف على السكان من قبل الإدارة الفرنسية و أعوانها خاصة القياد.
*المحافظة على المقومات الحضارية للأهالي بانتشار التعليم باللغة العربية و احترام تعاليم الإسلام، ورجاله مثل ما تفعله الإدارة مع الآباء البيض التي تزكي حركتهم التبشيرية.
*مساعدة الفقراء و المحتاجين بالحبوب و الغذاء، و طالب بتزويدهم بـ 10 قناطير من القمح.
وافق المدير العام الفرنسي على هذه المطالب و أخبر الشيخ عبد العزيز أنه سيرفعها إلى السلطات العليا، و لكن الأمور تطورت و اشتد الغضب بالشعب فاندلعت ثورة في البلاد، و صطدامات دامية بين الأهالي و قوات الطوارىء الفرنسية التي حاصرت المنطقة بحشود ضخمة للقضاء على هذه الثورة.
سجن الشيخ عبد العزيز الشريف و نفيّه من "سُوف" :
و بعد هدوء العاصفة ألقت السلطات الفرنسية القبض على الشيخ عبد العزيز و زملائه الشيخ "علي بن ساعد" و "الشيخ عبد القادر الياجوري" و التاجر المناضل "السيد عبد الكامل النجعي" وزجت بهم في السجن.
و قد كتب الإمام ابن باديس عن ذلك في جريدة "البصائر" في عددها 121. فقال :"... عج وادي سوف يوم 18 أفريل بالجنود و العتاد، و رصعت رباه بالمدافع الرشاشة و أردعت أجواؤه بأزير الطائرات فأوشك أهله و نساؤه و أطفاله و بيوته و نخيله أن تنسفهم قنابل الأرض أو تمحقهم صواعق السماء، فذهلت المراضع و وضعت نحو ثلاثين امرأة حملها . . و أصبح الوادي على حين بغتة و قد عطلت أسواقه، و سدت طرقاته، ومنع عنه الداخل و الخارج و ضرب عليه نطاق شديد محكم الحصار . .. ألقي القبض على الشيخ "عبد القادر الياجوري" و السيد "عبد الكامل بن الحاج عبد الله" و سيقوا إلى السجن بقسنطينة، و حشرت جماعات من الناس إلى المركز الإداري و زج بهم في السجن ثم حكم على عدد وفير منهم بالنفي و السخرة، كل هذا و الناس معتصمون بالصبر و منتظرون الفرج ... ثلاثة أسابيع ذاق فيها أهل الوادي ما ذاقوا و طافت فيها الجنود شرقا و غربا و شمالا و جنوبا ..." .
بعد هذه الوقائع الأليمة التي ألمت بوادي سُوف وأهله أتت إلى المنطقة لجنة البحث للكشف عن أصل هذه الحوادث و للاطلاع على حقيقة الواقع ، فساق إليها "القياد" الناس ليشهدوا، وقد جدوا و اجتهدوا في جمع الشهود تحت مظاهر الرهبة و الخوف .
فقامت هذه اللجنة بواجبها بنزاهة و إنصاف و تحققت أن لا ثورة و لا هيجان، و أن لا شيء دبر ضد الحكومة الفرنسية أو الأمن العام ، ففك الحصار عن المنطقة و أهلها و فك أسرالموقوفين و قفلت الجنود راجعة من حيث أتت . . و رفع ذلك الكابوس الثقيل عن وادي سُوف الهادي المطمئن إلا ما بقي من مظالم بعض "القياد" و أعوانهم.
و رغم ذلك فإن الشيخ عبد العزيز و رفاقه بقوا في السجن بدون محاكمة و تكفلت جمعية العلماء المسلمين بالدفاع عنهم و تخليصهم من السجن، مستعينة بالمحامين و رجال القانون.
مكث الشيخ عبد العزيز مع رفاقه بالسجن حوالي أربع سنوات ثم حكم عليهم بالإبعاد و الإقامة الجبرية، فأقام الشيخ عبد العزيز في أول الأمر في "شرشال" ثم انتقل إلى "آزقون" و أخيرا إلى "الجزائر العاصمة" ، و قد أسس بهذه المناطق مراكز للإشعاع الحضاري من مساجد و مدارس لنشر العلم بين أهلها.
و كانت أول زيارة له للجنوب، بعد هذه المحنة هي رحلته إلى "بسكرة" سنة 1946 و التي استغرقت مدة قصيرة، وحاول بعدئذ عدة محاولات للرجوع إلى الوادي و لكنه لم يفلح في ذلك و في سنة 1953 نفي الشيخ عبد العزيز من التراب الوطني و أبعد إلى القطر التونسي الشقيق، فوجد الحالة السياسية متأزمة إبان الثورة التونسية، حيث تطارد السلطات الإستعمارية الزعماء و المجاهدين و تتابع الدستوريين ، مما جعل الشيخ يركن للهدوء و يستكين للاستقرار، فلم يقم بأي نشاط سياسي هناك .
استقراره بتونس و دعمه لثورة أول نوفمبر :
استقر الشيخ عبد العزيز الشريف بتونس العاصمة، وحين إندلاع الثورة الجزائرية في أول نوفمبر 1954 أيد الشيخ عبد العزيز الثورة بكل حماس و قدم الدعم و التأييد لجبهة التحرير الوطني ، حيث تبرع لمصالحها بتونس بمحلات و دكاكين من أملاكه لتستعملها الجبهة في أغراض الثورة، كإيواء المجاهدين و أبناء الشهداء، و مكاتب إدارية و غيرها .
واستمر الشيخ في تدعيم الثورة حتى تحصلت الجزائر على استقلالها في الخامس من جويلية
سنة 1962م إلا أن الشيخ عبد العزيز لم يرجع إلى أرض الوطن بل بقي مقيما
بتونس الشقيقة ، و لازم داره و لم يقم بأي عمل سياسي أو ثقافي يذكر.
وفاته :
عاش الشيخ عبد العزيز ما بقي من أيام حياته بتونس الشقيقة و ذلك بعد أن رأى حلمه و
حلم إخوانه المجاهدين و الشهداء قد تحقق بتحرر الوطن الغالي و عودته الى أحضان
العروبة و الإسلام بعد قرن و ربع القرن من الإحتلال .
و قد كانت وفاته في تونس سنة 1965م بعد أن بلغ من العمر سبعة و ستين سنة ، فرحمة الله تعالى عليه و أسكنه فسيح جناته
هوامش :
هدّة : إنتفاضة , مظاهرة عارمة , ثورة .
عميش : منطقة جنوب وادي سُوف يطلق عليها أيضا القبلة تضم حاليا بلديات البياضة و الرباح
والنخلة و العقلة.
الزاوية : مكان لتعليم القرآن و اللغة العربية و بعض العلوم الشرعية في القرون الماضية .
القيّاد : جمع مفرده قايّد و هم أشخاص تقوم سلطات الاحتلال بتعيينهم كوسطاء بينها و بين أهل البلاد لجمع الضرائب و تبليغ الأهالي و تنفيذ بعض الأحكام وعادة ما يكونون من شيوخ القبائل المتعاونين و الموالين للمحتل .
البهيمة و الزقم : منطقتين شرق وادي سوف يطلق حاليا تسمية بلدية حساني عبد الكريم .
المقرن : منطقة (بلدية) تقع في شمال شرق وادي سُوف
السخرة : العمل عند سلطات الاحتلال و المعمرين بدون تقاضي أجر .
شرشال : مدينة تقع شمال الجزائر تابعة إداريا لولاية تيبازة .
آزقون : منطقة تقع بالقبائل الكبرى .
قدمت منطقة "سُوف" كغيرها من مناطق هذا الوطن الغالي في كل مرحلة من مراحل الكفاح الطويل
ضد المحتل الفرنسي المئات من الأبطال من مناضلين و مجاهدين و شهداء .
و كما أسلفنا في موضوع الاحتلال الفرنسي لوادي سُوف سابقا فإن المنطقة لم تعرف الاستقرار إلا بعد أن تمكن المحتل الفرنسي من القضاء على أغلب الثورات و المقاومين بمنطقة الجنوب و الصحراء بقوة السلاح. كمقاومة "سي النعيمي" , "محمد بو علاق اليعقوبي" , "بن ناصر بن شهرة" , "بوشوشة" و "الشريف محمد بن عبد الله" ... .
إلا أن هذا الهدوء و الاستقرار النسبي بالمنطقة لم يدم طويلاً كما كان يتمناه المحتل .
فسرعان ما تجددت المواجهات و ارتفعت الأصوات المنادية برفع مظالم المحتلين و أعوانهم المسلطة على أهل "سُوف" و الداعية للاصلاح و الحرية و خاصة في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين و قبيل الحرب العالمية الثانية وعند إندلاع ثورة أول نوفمبر التحريرية الكبرى .
و لعل أهم صور ذلك النضال و الجهاد و الوقوف في و جه المحتل الفرنسي و حاكمه العسكري بالمنطقة و "قياده" من الصبايحية و المتعاونين معهم , في بدايات القرن العشرين ما قام به الشيخ محمد الهاشمي شيخ الزاوية القادرية أنذاك و دوره في إشعال الثورة و التمرد عن سلطات الاحتلال و التي عرفت فيما بعد بـ "هدة عميش" .
كما لا ننسى الدور الكبير لابنه الشيخ "عبد العزيز الشريف" الذي لم يكل و لم يمل في محاولات إصلاح الأوضاع المتردية لأهل المنطقة و في استرجاع حقوقهم المسلوبة من سلطات الاحتلال و أعوانه و هو ما كلفه السجن و النفي و الإبعاد عن أرض الأباء و الأجداد لمدى الحياة .
و فيمايلي سنستعرض أهم و أبرزمحطات حياة هذا المجاهد البطل:
1- المجاهد : عبد العزيز الشريف
نسبه و نشأته : هو عبد العزيز بن الشيخ محمد الهاشمي بن ابراهيم بن أحمد الشريف، هاجر جده الأول الشيخ ابراهيم إلى الجريد بالجنوب التونسي و استقر بمنطقة نفطة لينشط ضمن الزاوية القادرية هناك .
و قد أنجب ابراهيم ابنه محمد الهاشمي سنة 1853 الذي عاد إلى أرض الوطن سنة 1892م حيث أسس الزاوية القادرية بالبياضة "عميش" ليواصل نشاطه الديني و الفكري على غرار آبائه وأجداده الأولين.
وهناك بقرية البياضة "عميش" بوادي سوف ولد عبد العزيز الشريف بزاوية والده محمد الهاشمي سنة 1898م و قد واجه الشيخ محمد الهاشمي منافسة شديدة و مريرة من طرف الزاوية التجانية المجاورة له في البياضة و المنتشرة في قرى ومداشر وادي سوف .
و كانت السلطات الفرنسية تزكي هذا التنافس، بل و تثير النعرات و الفتن بين الطريقتين و تدس أعوانها بين الزاويتين لإشعال النيران بينهما ضمن سياسية "فرّق تسد".
و قد تفطن الشيخ الهاشمي إلى مكايد الإدارة الفرنسية فعمل على محاربة الاستعمار الفرنسي، فاستغل ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى ليفجر ثورة عارمة في المنطقة، عرفت بـ "هدّة عميش"، و هذا من أجل تخليص البلاد من ظلم المحتل و أعوانه.
و بعد هدوء العاصفة، وجهت السلطات الفرنسية بالوادي تهمة التمرد على فرنسا إلى الشيخ الهاشمي و اعتقلته يوم 15 نوفمبر 1918 م لينقل بعد ذلك إلى سجن بسكرة ، و منه إلى سجن "الكدية" العسكري بقسنطينة ريثما يقف أمام المحكمة العسكرية التي أصدرت ضده فيما بعد الحكم بالنفي من الوادي لمدة سنتين . . و في جويلية 1920 رجع الشيخ الهاشمي إلى وادي سوف و حاول التعديل من مواقفه السابقة تجاه الزاوية التجانية و حتى تجاه السلطات العسكرية الفرنسية، و نصب كل اهتمامه في تطوير زاويته و توسيع نفوذها و ثرواتها . . و بدأ أيضا في تهيئة خليفة له فتوسم الخير في ابنه عبد العزيز الذي لاحظ عليه الفطنة و النجابة و سرعة البداهة، ذلك أنه حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة حفظا جيدا. ثم غادر الوادي سنة 1913 ليلتحق بجامع الزيتونة المعمور بتونس ليزاول تعليمه هناك. فتحصل على شهادة التطويع في حياة والده بامتياز، وعاد إلى الوادي سنة 1923، فوجد والده قد أوقف زاوية "عميش" و فروعها على أولاده الثلاثة، و اشترط في وصيته أن من يخلفه على رأس الزاوية و إدارة أملاك العائلة أن يكون حائزا على شهادة التطويع و عند وفاته في شهر سبتمبر 1923، لم يتوفر هذا الشرط إلا في ابنه الأصغر عبد العزيز، و كان عمره يقارب الخامسة و العشرون سنة في ذلك الوقت ورغم ذلك فقد آلت مشيخة الزاوية إلى الأخ الأكبر عبد الرزاق و لكنه لم يعمر طويلا في هذا المنصب بسبب حالته الصحية المتدهورة، فتوفى بعد ثلاثة أشهر من تنصيبه على رأس الزاوية في شهر ديسمبر 1923.
تحول الشيخ عبد العزيز الشريف من الطرقية إلى الإصلاح :
أصبح الشيخ عبد العزيز المؤهل الوحيد لمشيخة الزاوية باعتباره المتخرج الأول من جامع الزيتونة، فضلا عن كونه مشهورا بذكائه و فصاحة لسانه و وضوح بيانه، كما كان الشيخ أديبا ظريفا لبقا ، لهذا تم الإجماع على أن يتولى مشيخة الزاوية القادرية في سُوف مع ملحقاتها في كل من تقرت و بسكرة و سكيكدة و الجزائر العاصمة .
سار الشيخ عبد العزيز على خطى والده في تسيير شؤون الزاوية و تنظيم شؤونها لعدة سنوات .
و في سنة 1936م قام الشيخ عبد العزيز بأداء فريضة الحج . فزلزل هذا الحدث كيانه، لأن المشرق العربي في تلك السنة، كان يعج بأحداث تاريخية و غليان سياسي يتمثل في مواجهة الاستعمار الأوروبي، ففي مصر أبرمت معاهدة 1936، اعترفت فيها بريطانيا بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة .أما سوريا فقد عاشت ثورة 1936 لطرد المحتل الفرنسي، و في فلسطين اندلعت الثورة الكبرى و كادت أن تنتصر و تخلص البلاد من الانتداب البريطاني و النفوذ الصهيوني . كما عرف العراق في هذه السنة أيضا انقلابا ألغيت على إثره المعاهدات الجائرة .
مكث الشيخ عبد العزيز بالمشرق العربي ما يقرب السنة و عايش هناك بعض من هذه الأحداث السالفة الذكر، فأثرت فيه و تشبع بأفكار جديدة وجدت صداها في نفسه وقلبت كيانه رأسا على عقب و أخرجته من نطاق التفكير التصوفي الضيق و من المناوشات و التنافس مع الطرق الصوفية الأخرى إلى نطاق أكبر و أعم ألا وهو البحث عن المنهج القويم لاصلاح هذه الأمة و فك قيودها من هذا المحتل الغاشم الذي شتت عراها و فرق بين أبنائها و نهب خيراتها و استعبد أبنائها .
لما عاد الشيخ عبد العزيز إلى مسقط رأسه بدأ في الإقترب من أفكار جمعية العلماء المسلمين التي طفحت على سطح الأحداث في تلك الفترة . و انضم إليها كعضو فعال و بارز فيها بحكم إمكانياته العلمية و المالية و الإجتماعية.
جمعية العلماء المسلمين |
الشيخ : عبد الحميد بن باديس |
ثم أحيلت الكلمة إلى الشيخ عبد العزيز الذي أبدى تأسفه لتأخره في الإنضواء تحت لواء الجمعية، و وعد بأنه سيبذل كل مجهوداته في خدمة الإصلاح و تبرع لهم بمبلغ خمسة و عشرين ألف فرنك فرنسي قديم و هو مبلغ هام في ذلك الوقت.
الشروع في الإصلاح والمواجهة مع سلطات الإحتلال :
و قد أثار هذا النشاط المتزايد للشيخ عبد العزيز حفيظة السلطات الفرنسية بالوادي، و أظهروا مخاوفهم من تسرب أفكاره الإصلاحية إلى المنطقة، فيزعزع كيانهم، و يكذب إدعاءاتهم بأن الصحراء هادئة و آمنة .
وقد رتب الشيخ عبد العزيز زيارة لوفد من جمعية العلماء المسلمين بقيادة الإمام عبد الحميد بن باديس إلى الوادي في شهر ديسمبر من سنة 1937م لشرح و تكريس أفكار الحركة الإصلاحية بالمنطقة.
كان لهذه الزيارة الأثر العميق عند الشيخ عبد العزيز، فدفعته لتكثيف نشاطه و تنقلاته عبر القرى و المداشر شمالا و جنوبا "كالبهيمة" و "الزقم" و "الدبيلة" و "المقرن" معقل الطريقة التجانية أنذاك و لهذا فقد تعرض في "المقرن" إلى مضايقات من القياد و مقاديم التجانية، كما زار "قمار" و "وادي العلندة" و "الرباح" و "العقلة" و غيرها لنشر أفكار الحركة الإصلاحية و الدعوة لها ضمن التوجيهات الدينية و العلمية لإحياء نفوس الناس و تنبيههم من غفلتهم و إيقاظ ضمائرهم لإنارة الطريق الصحيح لهم.
و في هذا الإطار نظم الشيخ عبد العزيز زيارة للشيخ الفضيل الورتلاني إلى الوادي في شهر جانفي 1938م بدون رضا من خلية الجمعية بوادي سُوف في تلك الفترة . لأن الشيخ الورتلاني رحمه الله يتقد حماسا و يتسم بمواقف صريحة و نقد لاذع ، مما قد يصعب من عمل الخلية و أن تستغل سلطات الاحتلال ذلك كذريعة للتضيق عليهم و وقف أنشطتهم.
فكان لهذه الزيارة الصدى الواسع عند الناس لما طرحته من مواضيع ساخنة أغضبت الحاكم العام الفرنسي الذي بدأ يترصد خطوات الشيخ عبد العزيز و يضمر له الشر، و لكن الشيخ لم يبال بملاحظات الإدارة المحلية و زاد من تحركاته و عقد عدة اجتماعات بالوادي و "عميش" لفضح أعمال القياد و أعوان الإدارة الإستعمارية.
اهتم الشيخ عبد العزيز بنشر العلم فقام بتأسيس مدارس وفق مناهج جمعية العلماء ، فحول جزء من زاوية "البياضة" إلى أقسام للتعليم العصري، و في شهر مارس 1938 و بعد بيع محصول التمور، وظف نقود هذه العملية في تهيئة زاوية الوادي التي شرع فيها أبوه منذ سنوات خلت لجعلها مركزا للتعليم تستوعب أكثر من خمسمائة طالب جزء منهم يخضع للنظام الداخلي ، و استقدم لها معلمين أكفاء كالشيخ "علي بن ساعد" و الشيخ "عبد القادر الياجوري" المعروفين بغزارة علمهما و براعتهما في ميدان التعليم و الإرشاد، كما درس في هذه المدرسة الشيخ "العروسي ميلودي" و الشيخ "معراج دربال" و غيرهم، فعرفت المنطقة بذلك حركة علمية عملت على نشر الوعي الفكري و الحضاري ، فأثار ذلك مخاوف السلطات الاستعمارية الفرنسية ، فحاولت معارضتها و هدمها . فقد استدعى الحاكم الفرنسي الشيخ عبد العزيز و طلب منه الرخصة في شأن المدارس التي افتتحها فرد عليه الشيخ عبد العزيز بأن الزوايا من قديم الزمان تعلم بدون رخصة و تكرر الأخذ و الرد بينهما في هذا الأمر ففهم الشيخ أن الإدارة الفرنسية مستأة للغاية مما يقوم به من حركة إصلاحية و ستعمل على إعاقته بشتى الوسائل .
علم الشيخ عبد العزيز أن السيد (ميلييوت) (MILLIOT) المدير العام للشؤون الأهلية و أقاليم الجنوب سيقوم بزيارة تفقدية إلى الوادي يوم 12 أفريل 1938، و لهذا عزم الشيخ على تنظيم مظاهرة احتجاجية على تصرفات السلطات المحلية مستغلاً حضور هذا الموظف الفرنسي السامي.
فاستدعى الحاكم العسكري بالوادي الشيخ عبد العزيز يوم 12 أفريل في الصباح ليعلمه رسميا أن أي مظاهرة ممنوعة، فرد عليه بأن المظاهرة ستنظم مهما كانت الظروف ، و فعلا بعد ظهر يوم 12 أفريل و بمجرد وصول السيد المدير العام تظاهرت جماهير غفيرة قدرتها الوثائق الاستعمارية بحوالي 1200 شخص، اعتصموا بشباك مقر الحاكم العسكري إلى الساعة الثامنة و نصف ليلا.
استقبل السيد (ميلييوت) المدير العام للشؤون الأهلية و أقاليم الجنوب الشيخ عبد العزيز و دارت بينهما مفاوضات عسيرة استغرقت حوالي ثلاثة ساعات تمحورت حول مطالب الأهالي ، الذين يعبرون عن غضبهم من تصرفات المصالح الاستعمارية، كما قدم شكوى بالحاكم العسكري بالوادي المتواطيء مع قياد المقرن و مشايخها الذين ضايقوه و لم يفعل لهم الحاكم العسكري شيئا.
و يمكن إجمال ما جاء في عريضة المطالب التي رفعها الشيخ عبد العزيز باسم الأهالي في النقاط التالية :
* رفع الظلم و التعسف على السكان من قبل الإدارة الفرنسية و أعوانها خاصة القياد.
*المحافظة على المقومات الحضارية للأهالي بانتشار التعليم باللغة العربية و احترام تعاليم الإسلام، ورجاله مثل ما تفعله الإدارة مع الآباء البيض التي تزكي حركتهم التبشيرية.
*مساعدة الفقراء و المحتاجين بالحبوب و الغذاء، و طالب بتزويدهم بـ 10 قناطير من القمح.
وافق المدير العام الفرنسي على هذه المطالب و أخبر الشيخ عبد العزيز أنه سيرفعها إلى السلطات العليا، و لكن الأمور تطورت و اشتد الغضب بالشعب فاندلعت ثورة في البلاد، و صطدامات دامية بين الأهالي و قوات الطوارىء الفرنسية التي حاصرت المنطقة بحشود ضخمة للقضاء على هذه الثورة.
سجن الشيخ عبد العزيز الشريف و نفيّه من "سُوف" :
و بعد هدوء العاصفة ألقت السلطات الفرنسية القبض على الشيخ عبد العزيز و زملائه الشيخ "علي بن ساعد" و "الشيخ عبد القادر الياجوري" و التاجر المناضل "السيد عبد الكامل النجعي" وزجت بهم في السجن.
و قد كتب الإمام ابن باديس عن ذلك في جريدة "البصائر" في عددها 121. فقال :"... عج وادي سوف يوم 18 أفريل بالجنود و العتاد، و رصعت رباه بالمدافع الرشاشة و أردعت أجواؤه بأزير الطائرات فأوشك أهله و نساؤه و أطفاله و بيوته و نخيله أن تنسفهم قنابل الأرض أو تمحقهم صواعق السماء، فذهلت المراضع و وضعت نحو ثلاثين امرأة حملها . . و أصبح الوادي على حين بغتة و قد عطلت أسواقه، و سدت طرقاته، ومنع عنه الداخل و الخارج و ضرب عليه نطاق شديد محكم الحصار . .. ألقي القبض على الشيخ "عبد القادر الياجوري" و السيد "عبد الكامل بن الحاج عبد الله" و سيقوا إلى السجن بقسنطينة، و حشرت جماعات من الناس إلى المركز الإداري و زج بهم في السجن ثم حكم على عدد وفير منهم بالنفي و السخرة، كل هذا و الناس معتصمون بالصبر و منتظرون الفرج ... ثلاثة أسابيع ذاق فيها أهل الوادي ما ذاقوا و طافت فيها الجنود شرقا و غربا و شمالا و جنوبا ..." .
بعد هذه الوقائع الأليمة التي ألمت بوادي سُوف وأهله أتت إلى المنطقة لجنة البحث للكشف عن أصل هذه الحوادث و للاطلاع على حقيقة الواقع ، فساق إليها "القياد" الناس ليشهدوا، وقد جدوا و اجتهدوا في جمع الشهود تحت مظاهر الرهبة و الخوف .
فقامت هذه اللجنة بواجبها بنزاهة و إنصاف و تحققت أن لا ثورة و لا هيجان، و أن لا شيء دبر ضد الحكومة الفرنسية أو الأمن العام ، ففك الحصار عن المنطقة و أهلها و فك أسرالموقوفين و قفلت الجنود راجعة من حيث أتت . . و رفع ذلك الكابوس الثقيل عن وادي سُوف الهادي المطمئن إلا ما بقي من مظالم بعض "القياد" و أعوانهم.
و رغم ذلك فإن الشيخ عبد العزيز و رفاقه بقوا في السجن بدون محاكمة و تكفلت جمعية العلماء المسلمين بالدفاع عنهم و تخليصهم من السجن، مستعينة بالمحامين و رجال القانون.
مكث الشيخ عبد العزيز مع رفاقه بالسجن حوالي أربع سنوات ثم حكم عليهم بالإبعاد و الإقامة الجبرية، فأقام الشيخ عبد العزيز في أول الأمر في "شرشال" ثم انتقل إلى "آزقون" و أخيرا إلى "الجزائر العاصمة" ، و قد أسس بهذه المناطق مراكز للإشعاع الحضاري من مساجد و مدارس لنشر العلم بين أهلها.
و كانت أول زيارة له للجنوب، بعد هذه المحنة هي رحلته إلى "بسكرة" سنة 1946 و التي استغرقت مدة قصيرة، وحاول بعدئذ عدة محاولات للرجوع إلى الوادي و لكنه لم يفلح في ذلك و في سنة 1953 نفي الشيخ عبد العزيز من التراب الوطني و أبعد إلى القطر التونسي الشقيق، فوجد الحالة السياسية متأزمة إبان الثورة التونسية، حيث تطارد السلطات الإستعمارية الزعماء و المجاهدين و تتابع الدستوريين ، مما جعل الشيخ يركن للهدوء و يستكين للاستقرار، فلم يقم بأي نشاط سياسي هناك .
استقراره بتونس و دعمه لثورة أول نوفمبر :
استقر الشيخ عبد العزيز الشريف بتونس العاصمة، وحين إندلاع الثورة الجزائرية في أول نوفمبر 1954 أيد الشيخ عبد العزيز الثورة بكل حماس و قدم الدعم و التأييد لجبهة التحرير الوطني ، حيث تبرع لمصالحها بتونس بمحلات و دكاكين من أملاكه لتستعملها الجبهة في أغراض الثورة، كإيواء المجاهدين و أبناء الشهداء، و مكاتب إدارية و غيرها .
واستمر الشيخ في تدعيم الثورة حتى تحصلت الجزائر على استقلالها في الخامس من جويلية
سنة 1962م إلا أن الشيخ عبد العزيز لم يرجع إلى أرض الوطن بل بقي مقيما
بتونس الشقيقة ، و لازم داره و لم يقم بأي عمل سياسي أو ثقافي يذكر.
وفاته :
عاش الشيخ عبد العزيز ما بقي من أيام حياته بتونس الشقيقة و ذلك بعد أن رأى حلمه و
حلم إخوانه المجاهدين و الشهداء قد تحقق بتحرر الوطن الغالي و عودته الى أحضان
العروبة و الإسلام بعد قرن و ربع القرن من الإحتلال .
و قد كانت وفاته في تونس سنة 1965م بعد أن بلغ من العمر سبعة و ستين سنة ، فرحمة الله تعالى عليه و أسكنه فسيح جناته
هوامش :
هدّة : إنتفاضة , مظاهرة عارمة , ثورة .
عميش : منطقة جنوب وادي سُوف يطلق عليها أيضا القبلة تضم حاليا بلديات البياضة و الرباح
والنخلة و العقلة.
الزاوية : مكان لتعليم القرآن و اللغة العربية و بعض العلوم الشرعية في القرون الماضية .
القيّاد : جمع مفرده قايّد و هم أشخاص تقوم سلطات الاحتلال بتعيينهم كوسطاء بينها و بين أهل البلاد لجمع الضرائب و تبليغ الأهالي و تنفيذ بعض الأحكام وعادة ما يكونون من شيوخ القبائل المتعاونين و الموالين للمحتل .
البهيمة و الزقم : منطقتين شرق وادي سوف يطلق حاليا تسمية بلدية حساني عبد الكريم .
المقرن : منطقة (بلدية) تقع في شمال شرق وادي سُوف
السخرة : العمل عند سلطات الاحتلال و المعمرين بدون تقاضي أجر .
شرشال : مدينة تقع شمال الجزائر تابعة إداريا لولاية تيبازة .
آزقون : منطقة تقع بالقبائل الكبرى .
مجاهدي وشهداء وادي سُوف يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق