تراجع التنظيم القَبَلي في الفترة الأولى من الحكم الفرنسي
بعد أن احتل الفرنسيون بسكرة عام1844 و عززوا سيطرتهم عليها كانت تربطهم في البداية علاقات جيدة نسبيا مع قادة تقرت. وسرعان ما اكتشفوا أن هؤلاء القادة لم يكن لهم أي تأثير يذكر على سُوف . تعتمد كل من بسكرة وتقرت على سُوف في التجارة من وإلى تونس، ولكن السُوافة لا يعتمدون على حماية حلافائهم في تقرت . و قد تورط التجار في سُوف في تهريب البارود من تونس إلى جنوب الجزائر.
بسكرة - صورة قديمة |
في نهاية عام 1848 بدأ القائد الفرنسي ببسكرة مفاوضات مع مشايخ من سُوف ، بوساطة من "أحمد باي بن شنوف "، رئيس عائلة كبيرة من قسنطينة. جزء من سكان سُوف الذين رفضوا دفع الضرائب لحكام تقرت في ذلك الوقت (الواد ، قمار ، البهيمة ، الدبيلة) وافقوا الآن على شروط الفرنسيين بالخضوع لسلطة "أحمد باي بن شنوف" ، وذلك لاستعادة الوصول إلى أسواق بسكرة ، فاعترض حاكم تقرت على ذلك بدون جدوى. لكن "أحمد باي بن شنوف" لم يكن قادر على ممارسة أي سلطة سياسية فعالة في وادي سُوف.
تقرت - صورة قديمة *ساحة القيادة العليا* |
في يناير1852 توفي حاكم تقرت، وترك وراءه ابنا وريثا يبلغ عمره ست سنوات، تحت وصايه جدته، و كان هناك "بن قانة" منافسا له على الخلافة ، ولكن كان هناك ابن شقيق والد الحاكم المتوفي يدعى "سلمان الجلابي" الذي استغل الموقف، بدعم من "تماسين" ومن "الشريف محمد بن عبد الله" أحد الزعماء الدينيين الذي كان ينظم المقاومة ضد الفرنسيين في "ورقلة". كان الحاكم العام الفرنسي يفضل في الواقع تعيين "بن قانة" حاكما على تقرت ، لكن السكان قاوموا الفكرة، فعلم الفرنسيون أن ذلك لن يتحقق إلا بالتدخل العسكري المباشر للجيش الفرنسي و لذلك اعترف الفرنسيون بسيادة الحاكم الصغير على تقرت .
تقرت - صورة قديمة لأحد الأسواق |
في هذه
الأثناء حاز "سلمان الجلابي" على الدعم من "أولاد سعود" في
سُوف ، فقدموا له 300 من المقاتلين وبمساعدتهم هذه
،استطاع أن يستولي على تقرت على حين غفلة بتاريخ 1 أفريل 1852 وهذا بعدما قدمت زاوية "تماسين" دعمها المعنوي له
لكن المقاومة في واد ريغ قد فشلت بسرعة.
أقنع القادة العسكريون الفرنسيون في شرق الجزائر الحاكم العام
بالاعتراف بـ "سلمان الجلابي" حاكما على تقرت ولكن بشرط حضوره شخصيا إلى
بسكرة أو باتنة للاعتراف بالسيادة الفرنسية لكن يبدو أن
"سلمان" قد رأى ذلك خدعة لاستدراجه خارج تقرت بحيث تكون الظروف مواتية
لأن يقوم "بن قانة" بانقلاب عليه في حالة غيابه فرفض الحضور.
قام الفرنسيون بمنع
تجارة القمح بين بسكرة و تقرت كما سمحوا لبعض الفرسان غير النظاميين من بسكرة
بالإغارة على قافلتين تجاريتين من سُوف. تم إرسال "أحمد باي بن شنوف"
إلى سُوف في محاولة لإبعاد السُوافة بعيدا عن سلمان، لكنه فشل في ذلك . بدأ
"سلمان" في القضاء على خصومه الحقيقيين أو المفترضين في وادي ريغ. وفي
أبريل 1853 خسرالكثير من الدعم المتبقي له في سُوف حيث قام باقتحام
"كوينين" مع80 رجلا لقتل بعض خصومه السياسيين الذين التمسوا اللجوء هناك لكن
نجح عدد من هؤلاء
المعارضين بالهروب إلى قمار، التي رفضت تسليمهم إليه لكن قوة سلمان
كانت أضعف من أن تهاجم قمار فعاد إلى تقرت. في مايو 1853 أمر الحاكم العام بفرض
حصاراقتصادي جديد على واد ريغ و وادي سُوف . فأرسلت "قمار" و "تغزوت" و"الزقم"
وفدًا إلى "بسكرة" يعرض دفع الضريبة إليهم بدلا من "سلمان"،
سمح لهم القائد المحلي بالعودة إلى أسواق "بسكرة" مرة أخرى ، ولكن عندما
تقدم "الواد" بعد ذلك بعرض مماثل رفض ذلك العرض . في هذه
الأثناء عرض "سلمان الجلابي" تعاونه على شريف "ورقلة" ، وطلب
الحصول على دعم ضد الفرنسيين من باي تونس.
بدأ الحاكم العام الفرنسي يخطط لعمل عسكري
مباشر ضد "تقرت" وفي ديسمبر عام 1853 اقترح جعل "بن
قانة" أو "بن شنوف" حاكمًا جديدًا لتقرت، ولكن في النهاية قبل
اقتراحا من قائد الجيوش الإقليمية، العقيد
"ديفو"( Desvaux )، لتثبيت بوعكاز هناك من أجل سد الفجوة والقضاء على الإنقسامات
السياسية. في"تقرت"
أعلن "سلمان الجلابي" نفسه خليفة لشريف ورقلة (نائبا له) . في البداية لم يتمكن من تجنيد سوى عدد قليل من الجنود في سُوف، ولكن في نوفمبر 1854
كان1500 من المسلحين
من "الواد" و73 من "كوينين" تحت تصرفه. في مارس 1854 قامت مجموعة
من المسلحين من "بسكرة" و بتحريض من الفرنسيين، بمهاجمة مجموعات عديدة
من "الربايع" إحدى فصائل "طرود" ، فأجبارت
"الواد" على الإنضمام إلى معسكر "سلمان الجلابي" مرة أخرى.
في نوفمبر 1854 تقدم 250 جنديا من القوات الفرنسية النظامية و2400
رجل من القوات غير النظامية باتجاه وادي ريغ.
و
لكن قبل ذلك في أكتوبر، أعلنت بلدات "كوينين" و "تغزوت"
استسلامها في بسكرة، في حين أن زاوية "تماسين" أعلنت أيضا
أنها ضد "سلمان". في 29 نوفمبر هاجم "سلمان
الجلابي"مع 2500 رجل القوات الفرنسية بمنطقة "الماقرين" ، ولكنه
تعرض لهزيمة نكراء وتفكك جيشه بسرعة. ففر
"سلمان الجلابي" و "الشريف محمد بن عبد الله" إلى تونس. في 2 ديسمبر
دخلت القوات الفرنسية إلى تقرت و في 12 ديسمبر خيمت القوات الفرنسية على بعد
بضعة كيلومترات خارج المنطقة المأهولة من سُوف في انتظارخضوع السُوافة. وكانت
الواد قد دفعت غرامة قدرها60.000 فرنك فرنسي في يومين.
منظر قرب السوق بسُوف في بدايات القرن العشرين |
كتيبة من الجنود تمشي بالصحراء بضواحي الوادي |
على الرغم من أن الوظيفة الجديدة للشيخ لم يكن لها شعبية إلا أنها وفرت آفاق للتطور الوظيفي للرجال النشيطين و الطموحين . وكان من المفترض أن يبقى الشيخ وفيا للدور التقليدي له كزعيم عند الحرب.
كانت سُوف على الحدود الخارجية للمنطقة الهادئة والأمنة ، لكن ظلت الإغارات تستهدف الماشية والجماعات القبلية بسُوف بكثرة حتى مطلع القرن . فقد واصلت قبائل الجنوب التونسي الإغارة على المواشي بسُوف حتى تم وقفها من قبل الفرنسيين في منتصف الثمانينات. كما واصلت كذلك جماعات من "الشعامبة" من منطقة ورقلة ، وأحيانا في تحالف مع بعض جماعات "الطوارق" الضالة الإغارة على سُوف حتى العقد الأول من القرن العشرين. كانت السلطات الفرنسية مترددة في السماح بمكافحة هذه الغارات، وعادة ما كانت تقوم بتجاهلها. لم تكن العائلات التجارية الكبيرة مهتمة كثيرا بالسياسة القبلية الصغيرة، فقد كان الزعماء السياسيين يقومون بذلك عادة بشكل جيد ولكن ليس حقا أن الأغنياء يستطيعون أن يمارسوا سلطة اقتصادية تذكر على أتباعهم . وعلى هذا الأساس فإنه لا يوجد سبب وجيه لبروز قيادة شخصية قوية في أيام ما قبل الاستعمار، ولكن من أجل دعم مصالح الفرنسيين وممثلهم "علي باي" قاموا في أواخر عام 1858 بالبحث عن قاعدة من الزعمات الطموحة. في تلك السنوات نجد أول ذكر لرجلين لا يزالان شابين نسبيا هما "حمو موسى" و "أحمد بن تواتي" اللذين أصبحا من القادة المحليين الرئيسيين في سُوف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
منظر لغابات النخيل "الغيطان" التي تحيط بسوق سُوف في بدايات القرن العشر |
يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق